انتخاب السنوار- انتقال قيادي سلس لحماس رغم التحديات والصعاب الجسام

المؤلف: د. محسن محمد صالح10.14.2025
انتخاب السنوار- انتقال قيادي سلس لحماس رغم التحديات والصعاب الجسام

على الرغم من الفاجعة الكبرى والخسارة الفادحة التي ألمّت بحركة حماس، جرّاء استشهاد قائدها ورئيس مكتبها السياسي، المغفور له بإذن الله إسماعيل هنية، إلا أن الحركة أظهرت قدرة فائقة على التكيف والمرونة، ففي غضون أيام معدودات، تمكنت من إجراء انتخابات لاختيار خلف له، حيث آلت القيادة إلى يحيى السنوار "أبو إبراهيم".

هذا الانتقال القيادي السريع والمنظم أثار دهشة المراقبين، خاصة بالنظر إلى الظروف الصعبة والتحديات الجسام التي تواجهها حماس، سواء على صعيد المعركة الشرسة التي تخوضها، أو استهداف قادتها ومؤسساتها بشكل ممنهج، أو القيود المفروضة على حركتها في أغلب البيئات العربية والدولية، فضلاً عن صعوبة التواصل والتنسيق والاجتماع بشكل آمن وسري. كل هذه العوامل تجعل إجراء عملية انتخابية شورية أمرًا في غاية التعقيد.

لكن تجدر الإشارة إلى أن حركة حماس، منذ تأسيسها، تميزت ببناء تنظيمي وشوري راسخ، وبآلية صنع قرار ديناميكية ومرنة، قادرة على التعامل مع الظروف المعقدة للاحتلال والحصار في الداخل الفلسطيني، وكذلك مع تحديات التشتت والتباعد في الخارج.

العوامل المؤثرة في هذا الترفيع القيادي السريع

  • أولًا: إن الرصيد الإيماني والتربوي العميق لكوادر وقيادات الحركة كان له دور جوهري في تيسير هذه العملية الانتخابية الشورية، حيث ساهم في تخفيف التنافس الشديد على المناصب القيادية، فالقيادة في نظرهم ليست مجرد امتياز، بل هي مسؤولية جسيمة وأمانة عظيمة، يستشعرون عظمها أمام الله.
  • ثانيًا: لا شك أن التجربة الشورية والانتخابية الداخلية التي خاضتها مدرسة الإخوان المسلمين، التي تنتمي إليها حماس فكريًا، قد أثرت إيجابًا في صقل تجربة الحركة وتقويتها.
  • ثالثًا: إن وضوح المبادئ والثوابت العقائدية والفكرية والدعوية والسياسية والكفاحية ساهم في خلق أرضية مشتركة من الفهم لدى غالبية الكوادر والقيادات، مما ضيق هامش الاختلاف في اختيار القيادات، وركز على معايير الخبرة والكفاءة والحنكة، طالما أن البرنامج العام متفق عليه.
  • رابعًا: تجدر الإشارة إلى أن حماس لم ترزح تحت سطوة "الزعيم الأوحد" أو "الرئيس المؤبد" أو "الرمز القيادي المقدس"، بل سمحت لوائحها وأنظمتها بمحاسبة الجميع، بل وحتى سحب الثقة إذا اقتضى الأمر (وإن لم يحدث ذلك فعليًا حتى الآن).
  • خامسًا: الآليات الانتخابية المعتمدة لا تجيز للقائد البقاء في منصبه لأكثر من دورتين متتاليتين (ثماني سنوات)، وهذا النظام يسري على رئيس الحركة ورؤساء المناطق أو الأقاليم (غزة، والضفة، والخارج)، وحتى أعضاء القيادة أنفسهم، مما يهيئ القادة نفسيًا لترك مناصبهم، والانتقال إلى مواقع ومسؤوليات أخرى، أو إفساح المجال أمام جيل جديد من القادة، وبروز رموز جديدة.
  • سادسًا: ربما ساهم في إضفاء المزيد من النقاء والشفافية على العملية الانتخابية أن العمل القيادي في حماس، في كل المراحل، قائم على "المغرم" وليس "المغنم"، فالتقدم للقيادة في ظل ظروف العمل لفلسطين والعمل المقاوم المسلح، ومجابهة المشروع الصهيوني، والمعاناة من عداء الأنظمة العربية والنظام الدولي للتيار الإسلامي ونهج المقاومة، يمثل تضحية بالنفس والوقت والمال، وربما التحول إلى هدف مشروع للاغتيال، وبالتالي لا مجال للتنافس على المكاسب الدنيوية.
  • سابعًا: من العوامل الأخرى التي أثرت في هذه الديناميكية، أن حماس تنظيم عريض وقوي، يزخر بالطاقات والكفاءات في الضفة الغربية وقطاع غزة والخارج، وأن العديد من قياداتها الكبيرة حافظت على حضورها وتأثيرها الفعال على الصعيد الداخلي، ولعبت دورًا محوريًا في صنع القرار، حتى وإن لم تكن معروفة سياسيًا أو إعلاميًا، مما وفر للحركة نوعًا من شبكة الأمان الداخلي، والقدرة على تقديم هذه القيادات إلى الواجهة متى استدعى الأمر.

ومع ذلك، يجب التأكيد على أن أعضاء حماس ليسوا معصومين عن الخطأ، وأن النقاط المذكورة أعلاه تخفف من حدة التنافس القيادي، ولكنها لا تلغيه تمامًا، ولا تمنع وجود اختلافات في وجهات النظر والأولويات وتقييم الكفاءات والقدرات، وفي إعطاء وزن أكبر أو أقل لبعض المعايير المتعلقة بالأقدمية في الحركة، وبالعلم والكفاءة والخبرة والتناغم الشخصي والاعتبارات الجغرافية والتعايش المشترك.

لكن المؤكد أن حماس تجاوزت كافة استحقاقاتها الانتخابية منذ نشأتها وحتى الآن بسلاسة ويسر، وسرعان ما كانت تتوحد حول القائد الجديد، حتى في ظل وجود اجتهادات واختلافات في إطار الأداء الشوري أثناء العملية الانتخابية.

يمكن القول إن حماس هي من بين الفصائل القليلة في العالم العربي التي اجتازت كافة الاستحقاقات الانتخابية بشكل دوري ومنتظم، بالرغم من أنها من أكثر الفصائل تعرضًا للملاحقة والتضييق، مما يؤكد أن العملية الشورية الانتخابية جزء أصيل من بنيتها وتكوينها.

آلية القيادة في حماس

في حماس، لم تكن الرمزية الكبيرة تعني بالضرورة تولي العمل التنفيذي، فمثلاً، الشيخ أحمد ياسين، ورغم مكانته الرفيعة كقائد مؤسس وملهِم للمشروع، لم يتولَّ القيادة التنفيذية للحركة، بل ظل "أبًا روحيًا" وقائدًا ملهمًا حتى استشهاده.

فعندما أعلنت حماس عن انطلاقتها في ديسمبر/كانون الأول 1987، كان الشيخ أحمد ياسين جزءًا من القيادة، لكن الذي كان يتولى إدارة مكتب قيادة غزة هو الأستاذ عبد الفتاح دخان، وكان يدير أيضًا مكتب الداخل (الضفة والقطاع)، التابع لجهاز فلسطين برئاسة الأستاذ خيري الأغا (المقيم في الخارج)، والذي كان بدوره يتبع قيادة تنظيم بلاد الشام في الأردن برئاسة الأستاذ عبد الرحمن خليفة.

منذ تأسيس حماس وحتى عام 1993، كان خيري الأغا أول رئيس للحركة في الداخل والخارج، وكان قائدًا يحظى بإجماع الجميع، حتى استقال وأصر على استقالته، فخلفه نائبه الدكتور موسى أبو مرزوق، الذي استمر في القيادة حتى عام 1995، عندما اضطر لمغادرة الأردن، ولم يتمكن من العثور على مكان إقامة مناسب في العالم العربي، فعاد إلى الولايات المتحدة حيث اعتُقل، فخلفه نائبه خالد مشعل، الذي تولى رئاسة الحركة في الانتخابات التالية، وحظي بتوافق واسع حتى عام 2017، حيث أُقر في عهده قرار الاكتفاء بولايتين متتاليتين للرئيس، وانتُخب بعده إسماعيل هنية بتوافق كبير في استحقاق 2017، وجددت له الثقة للمرة الثانية في 2021.

انتخاب يحيى السنوار رئيسًا للحركة

عندما استشهد هنية، كان قد تبقى على نهاية ولايته الثانية نحو عام واحد، وكان قد سبقه للشهادة نائبه صالح العاروري في أوائل يناير/كانون الثاني 2024، لذلك، لم يكن من المستغرب أن تتجه الأنظار إلى رئيسي الحركة في غزة، يحيى السنوار، وفي الخارج، خالد مشعل، اللذين يُعتبران كرؤساء مناطق (أقاليم) بمثابة نواب للرئيس، ونظرًا لأن مشعل كان قد أعرب قبل طوفان الأقصى بعدة أشهر عن عدم رغبته في العودة لقيادة الحركة، فإن السنوار كان المرشح الأوفر حظًا والقيادي الأنسب لخلافة هنية.

إن الدور المحوري لقطاع غزة في العمل المقاوم وقيادة حماس، ومعركة طوفان الأقصى التي انطلقت من القطاع، والنموذج البطولي الذي تجسده غزة تحت قيادة السنوار، في مواجهة العدوان الصهيوني الشرس والتحالف العالمي من القوى الكبرى، وحالة الإجماع داخل حركة حماس في الداخل والخارج على استمرار الصمود والمقاومة، ورفع سقف التحدي في وجه العدوان بعد اغتيال هنية، كلها عوامل ساهمت في انتخاب السنوار، لذلك، لم يكن مفاجئًا هذا التوافق الداخلي على اختياره.

السنوار يعتبر من القادة المؤسسين للحركة، ومن الشخصيات البارزة في حماس منذ ثمانينيات القرن الماضي. إذ لعب دورًا أساسيًا في تشكيل جهاز الأمن "مجد" سنة 1983 بقيادة عبد الرحمن تمراز، وفي عام 1986، تولى رئاسة منظمة "مجد" التي شُكلت كقوة عسكرية ضاربة تابعة للجهاز الأمني، وكانت مهمتها مقاومة الفساد والمفسدين، ثم توسعت مهامها لتشمل مقاومة العملاء وغير ذلك.

اعتُقل السنوار عام 1988، وحُكم عليه بالسجن أربعة مؤبدات، وتولى في السجن مناصب قيادية، من بينها رئاسة الهيئة القيادية العليا لأسرى حماس، وأُطلق سراحه في صفقة وفاء الأحرار عام 2011، وفي العام التالي، انتُخب عضوًا في قيادة حماس في غزة، ثم انتُخب رئيسًا لحماس في القطاع في دورتي 2017 و2021.

يشتهر السنوار بصلابته وقوة شخصيته، وجديته وعمله الدؤوب واتخاذه القرارات الصعبة، ولقد ساهمت خبرته الأمنية والعسكرية في اهتمامه الشديد بهذا الجانب، وتكامله مع إخوانه المعنيين بإدارة هذا الملف، وقد تجلى هذا الانسجام بوضوح خلال معركة "طوفان الأقصى".

وخلاصة القول، أن حماس ستواصل مسيرتها المؤسسية، رغم أنها فقدت قادة كبار أمثال الشيخ أحمد ياسين وعبد العزيز الرنتيسي وصلاح شحادة وإبراهيم المقادمة وإسماعيل أبو شنب وأحمد الجعبري وجمال منصور وجمال سليم ويحيى عياش وغيرهم. كما استقال عدد من القادة البارزين مثل خيري الأغا وسليمان حمد وعبد الفتاح دخان وحسن القيق ومحمد حسن شمعة وغيرهم، ومع ذلك، ازدادت الحركة قوة واتساعًا مع مرور الوقت.

حماس ليست حركة مرتبطة بالأشخاص أو الرموز، بل هي حركة قائمة على الفكرة والمبادئ، وقادتها الجدد يبنون على إنجازات من سبقوهم، لذلك، فإن رهان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو والاحتلال الإسرائيلي على إضعاف حماس هو رهان خاسر، وقد ثبت فشله مرارًا وتكرارًا.

وعلى الأرجح، فإن استشهاد هنية سيعطي دفعة قوية للحركة للاستمرار في مشروع المقاومة، والسير على خطى الشهداء الأبرار من أبناء شعبها وأمتها.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة